كلمات في الفن للكاتب (رجاء النقاش)


الكاتب (رجاء النقاش)
اقتنيت من مكتبة الراحل (ناصر خلف) كتابا طالما أجلت قرأته, للكاتب الكبير الراحل (رجاء النقاش) الذي غادرنا سنة 2008بعنوان (كلمات في الفن) ولأنني اعشق الكتب ذات الصفحات الصفر التي غزى الزمان طياتها والخالية من أية صور شوقني ذلك أكثر لقراءته.
 طبع الكتاب في العام 1971 في دار القلم (بيروت لبنان) وهو يتحدث عن عدد مقالات كتبها عندما كان رئيسا لتحرير مجلة الكواكب من سنة (1965-1969) ولقد ساعدته تلك الفترة وعلى حد قوله: " على الاقتراب أكثر من الحياة الفنية الشعبية وساعدتني على أن أتعرف على ذوق الجمهور" وقد قسم الكتاب إلى قسمين القسم الأول (كلمات في الفن) ومنه اخذ عنوان الكتاب، وهو مقالات ولقاءات متنوعة عن مختلف جوانب الحياة الفنية والقسم الثاني (سينمائيات) وجمع فيه ما يتصل بالسينما والفني السينمائي.
القسم الأول (كلمات في الفن)
ام كلثوم
يستعرض في هذا القسم الكثير من الأحداث الفنية المهمة في تلك الحقبة ومن ابرز عناوينه (لغز أم كلثوم، لقاء مع أم كلثوم، أم كلثوم والمثقفون، المشايخ والفن غدا سوف نبكي سيد درويش) والعديد من المواضيع الممتعة. ما أعجبني حقا في هذا القسم لقاء مع أم كلثوم فبوصف دقيق وجميل يروي لنا قصة العاشق الذي تاق اشتياقه بلقاء كوكب الشرق . ((وأنا في طريقي إليها في الساعة السادسة من مساء يوم الأحد 30 أكتوبر سنة 1966 كنت أفكر في خواطر مبعثرة لا يجمع بينها شيء! تذكرت المقال الجميل الذي كتبه يوما أديب كبير هو الدكتور (زكي مبارك) عندما التقى بأم كلثوم لمدة ساعة وربع الساعة.. وخرج زكي مبارك ليكتب مقالا بعنوان "4500 ثانية مع أم كلثوم" لقد كان زكي مبارك عاشقا من عشاق أم كلثوم رغم ان زكي مبارك لا يعجبه العجب.. وكان يمسك خنجرا عنيفا يمزق به عصره ورجال عصره!)) بعد هذا الكلام ينتقل ليصف لنا وصفا اخر غاية بالروعة وهي فيلا أم كلثوم فيقول: ((ووصلت فيلا أم كلثوم بالزمالك، دخلت حجرة الصالون بيت هادئ نظيف، أنيق، لا ادري من أين جاءني الإحساس، بأنني داخل معبد مضيء فيه الهدوء كل شيء حتى البواب الذي يجلس أمام الفيلا، حتى السفرجي الذي يفتح لي الباب الهدوء الأنيق يملأ المكان بالعطر الجميل)) إلى لحظة ولوج أم كلثوم عليه: ((بعد لحظات قليلة دخلت أم كلثوم. أول مرة أراها وجها لوجه. سيدة سمراء لو رايتها في أي مكان من العالم لقلت هذه سيدة من مصر أنها بنت مصر، بنت القرية)) ويأخذهما الحديث لتتنوع المواضيع عن الشخصيات التي أثرت بها وعن الفرق الغنائية الاستعراضية وزيارتها الأخيرة لباريس والمسرح الغنائي والشعر العربي والموسيقى الغربية حتى يصل إلى سؤاله عن سيد درويش ((تقول أم كلثوم: ان سيد درويش فنان عظيم ولكنني اعتقد ان تراث سيد درويش يحتاج إلى مجهود كبير لتقديمه وعرضه بصورة تليق بهذا الفنان الكبير والذي يعتبر عبقرية موسيقية أصيلة والشيء الذي أضيق به عندما اسمع اغني سيد درويش هو كلمات الأغاني ففي اعتقادي انها كلمات ضعيفة. إنني اعتبر موسيقى سيد درويش موسيقى عبقرية فعلا، ولكنها لم تجد الشعر المناسب لها إلا في حالات قليلة مثلا في دور ضيعتي مستقبل حياتي نجد شعرا جيدا وجميلا )) ينتهي الحديث عن سيد درويش ليصل المطاف باللقاء في سؤال أخير يسألها قائلا: ((من هو الإنسان الذي ترى فيه أم كلثوم بطلا أو نموذجا للإنسانية)) فتجيب: ((بالنسبة للرجال فانا اعتبر محمدا "صلى الله عليه وسلم" أعلى مثل للإنسان. انه نموذج رفيع في السلوك والضمير والإدارة. وأي دراسة لحياته تكشف عن جوانب لامعة وعظيمة. ولهذا فانا اعتبر محمدا نموذجا للإنسان. كل ما فيه يعلمنا الإنسانية الحقيقية)). أما في النساء ((فان شخصية خديجة عليها السلام أنها أيضا مثال للبطولة النسائية الرفيعة، بطولة الروح والسلوك والضمير. وهي قوية الشخصية قادرة على الاختيار والتصرف، وهي وفية إلى أعلى حدود الوفاء. أراها شخصية لامعة)).
ويختم لقائه قائلا: ((انتهى لقائي مع أم كلثوم بعد ثلاث ساعات متصلة، أو بلغة الدكتور زكي مبارك بعد 10800 ثانية)).
القسم الثاني (سينمائيات)
فيروز
نتحول إلى القسم الثاني المليء بالمقالات الجميلة المهمة ومنها (فيروز والسينما والأخر الفيلم الثاني لفيروز في سنة 1965 قدمت فيروز والأخوين رحباني فيلم بياع الخواتم من إخراج يوسف شاهين وكان هذا الفلم هو أول فيلم تقوم فيروز ببطولته وقد لقي هذا الفيلم نجاحا فنيا وجماهيريا كبيرا. بكلمات ناقد فذّ وقدير يتحدث عن السيدة فيروز قائلا: ((فيروز في لبنان شيء راسخ ثابت أصيل مثل جبل لبنان .. مثل البحر الذي يغسل شواطئ لبنان كل لحظة مثل شجر الأرز العريقة التي نسي الناس متى ولدت والتي لا يتصور احد إنها ستتلاشى في يوم من الأيام. ان فيروز هي فنانة لبنان الأولى هي التي جمعت في صوتها كل ما في لبنان من سحر وأصالة وكلما أرادت لبنان ان تقدم أجمل ما عندها من الفن فلا بد ان يكون هذا الشيء هو أولا صوت فيروز أو هو شيء نابع من صوتها)) والفيلم الثاني الذي قدمته فيروز عنوانه (سفربرلك) وهو بلا شك واحد من أجمل الأفلام التي عرفتها السينما العربية ويقول النقاد الفنيون اللبنانيون الذين تابعوا حركة السينما اللبنانية: ((ان هذا الفيلم هو أحسن فيلم لبناني على الإطلاق)). في شرح مفصل عن الفيلم يحدثنا المؤلف: ((كلمة سفربرلك معناها باللغة التركية (إلى المنفى) وكانت هذه الكلمة مستخدمة في كل البلاد العربية الخاضعة للاستعمار التركي وخاصة سنة 1914 عندما قامت الحرب العالمية الأولى وقصة الفيلم مستمدة من كفاح شعب لبنان ضد الطغيان التركي ففي بداية الحرب العالمية الأولى قررت الحكومة التركية مصادرة القمح من كل مكان في لبنان لاستخدمه في تموين الجيش العثماني كما ساقت أمامها كل شباب لبنان للعمل في السخرة لخدمة الجيش العثماني أيضا. ومن كان يهرب من الشباب أو يحاول الهرب، كانت الحكومة التركية تأخذه "سفربرلك" أي المنفى. ثم يقود القباضايات أي الفتوات محاولة ثورية ضد السلطة العسكرية التركية، واشتبكوا في معارك عنيفة. واستطاعوا ان يهربوا القمح إلى الأهالي ويفرضون الذعر والخوف على السلطات التركية وجواسيسها المندسين في صفوف الشعب)).وخلال هذا الصراع بين الثوار و الجيش العثماني المحتل نشأت قصة حب بين الفتاة القروية (عادلة) وبين (عبده) وهو أيضا شاب قروي ترك قريته ليشتري خاتم الخطبة لعادلة ويشتري شالا يقدمه مع الخاتم بعد ان اتفقا على الزواج. أما عن الموسيقى والكلمات والألحان بفكره الناقد الثاقب يتحدث قائلا: ((وكانت أغنيات فيروز من أحلى الأغاني كلاما ولحنا وأداء، كما كانت الموسيقى التصورية للفيلم غاية العذوبة والقدرة على التعبير العميق)) يختم قائلا: ((انه فليم متناسق فيه كل عناصر العمل الفني الناجح من تمثيل وموسيقى، وإخراج واضح سهل لا تعقيد فيه ولا شطحات فيلم يمس القلب بصوت فيروز وموسيقى الرحباني وإخراج بركات.
(كلمات أخرى)
المطربة المظ

وكلمات أخرى وهو القسم الذي يحوي على أربع مقالات (أصوات أطربت أجدادنا، موقف لطه حسين في برنامج تلفزيوني، ناقد موسيقي ومن الذي مزق هذه الوصية؟!). أصوات أطربت أجدادنا في هذا المقال يتحدث عن كتاب (احمد أبو الخضر) بشرحه الوافي يتحدث قائلا: (ذلك هو الأستاذ احمد أبو الحضر منسي في كتاب بعنوان (الأغاني والموسيقى الشرقية بين القديم والجديد) ومن أمتع فصول هذا الكتاب القيم تلك الفصول التي كتبها عن المطربات المصريات ابتداء من أوائل القرن الثامن عشر وحتى بدايات القرن التاسع عشر) يستطرد حديثه عن هذا الكتاب قائلا: (انك تعيش مع الصفحات لحظات جميلة تكشف عن ذوق أجدادنا وعن الفن الذي كان يسعدهم ويطربهم إلى أقصى الحدود) والمطربة الأولى التي يحدثنا عنها هي (ساكنة) فقد ظهرت ساكنة في منتصف القرن التاسع عشر حيث كان أسلوبها القديم قائم على الطريقة الشرقية القديمة فيكمل حديثه عن صوتها (كانت ساكنة فارسة ميدانها ذات صوت أنيق فيه قوة ورقة) أما عن جمهورها (فقد استهام بغنائها رجال الترك وزوجاتهم، ولهج بتطريبها العامة من المصريين والخاصة). والمطربة الثانية التي يتحدث عنها الأستاذ منسي في كتابه هي (ألمظ) ومن هي ان(اسمها الذي اشتهرت به هو الاسم الذي اختاره الناس لها. واصل اسمها الماس وقد حرفه  أبناء الشعب إلى ألمظ . كانت ألمظ رائعة الجمال أما صوتها كان في الحسن آية كانت من الأصوات النادرة التي تهبها الطبيعة لمن تصطفيهم وفيه قوة جبارة). وقد ظلت ألمظ أعظم مطربة حتى أحبت (عبد الحمولي) وهو كان من أشهر مطربي تلك الفترة وتزوجى وفرض عليها الاعتزال فكان الحب غالبا على كلي شيء فوافقت وكانت عقيما فلم تلد ثم ماتت وهي صغيرة في حوالي السادسة والثلاثين من عمرها سنة 1896 وعاش بعدها عبده الحمولي حزينا خمس سنوات ثم مات.ومطربة أخرى ظهرت في أواخر الثامن عشر وهي (اللاوندية) (خرجت للناس من أهالي طنطا ثم إلى الإسكندرية وكثر معجبيها فرأت ان تأتي إلى القاهرة.) ويختم مقاله بأخر مطربة وهي (توحيدة) فكانت (مجيدة بارعة في الغناء لها مشاركة واسعة في سائر الفنون وضاربة للعود وكانت حانتها مدرسة للطرب الشرقي).
نبقى بالقسم الأخير ومقالة بعنوان (ناقد موسيقي) فيها يصف الدكتور رجاء النقاش في مقدمة رائعة عن الناقد الموسيقي (هو الذي اعنيه هنا ليس هو الإنسان المتعالي المتعلم المتشنج الذي يمسك بالعصا ويملي على الفنانين والقراء، كلا ان الناقد الحقيقي هو ذلك الذي يتمتع بالذوق والثقافة والقدرة على التعبير والاتجاه الفكري الواضح والشجاعة الأدبية. ولابد للناقد ان يكون صديقا مخلصا للقارئ، يصحبه معه في مودة وحرارة إلى الأعمال الفنية فينير أمامه الطريق الصحيح للفهم والتذوق.ومثل هذا الناقد لا بد ان يكون مرآة مخلصة للفنان بحيث يرى الفنان نفسه بصدق، فيعرف كل شيء عن فنه بوضوح وأمانة). ثم يعرفنا بالناقد (كمال النجمي) وكتابه (الأصوات والألحان العربية) قائلا: (الكاتب صاحب أسلوب واضح وسهل وجميل. وليس ذلك غريبا على كمال النجمي فهو شاعر متمكن من لغته وعباراته فهو ليس ناقدا موسيقيا يخاطب المتخصصين فقط بل ان القارئ العادي غير المختص يستطيع ان يعيش معه ويفهمه ويستمتع به). الوصف جميل عن الكتاب وما تضمنه من نقدا موسيقيا مختصا ليضيف رجا النقاش مواصفات للناقد الموسيقي وهي (لا أتصور ناقدا يستطيع أن يفهم هذه الموسيقى ويتذوقها بطريقة صحيحة دون ان يكون قد درس الشعر العربي وعرف أسراره الفنية، ودون ان يكون قد درس القرآن ودرس أصوات  المقرئين وأساليب أدائهم هذه بعض الشروط الأولية لمن يريد ان يتحدث عن الموسيقى العربية بفهم ووعي وهي كلها وأكثر منها متوفرة في كمال النجمي وكتابته). 
صور لغلاف الكتاب

إن هذا الكتاب يمكن اعتباره قيمة فنية كبيرة ومرجع مهم لتاريخ الفن العربي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق