فنـــان .. جليــس صحبـــة الشيــخ محــي الديــن بــن عربـــي


ناصر خلف
ناصر خلف


   ها انذا يا مولاي في حضرتك جليس صاغٍ وربيب حوار مفهوم بعلة قلب مكظوم وجدل محموم، أقرُ وأعترف بأني منك المختلف ومعك المؤتلف.. إنما الفنان هو الأكثر انعتاقاً للحرية والوجود اللاموجود في المرئي واللامرئي من أحقاب أزمنةٍ كان يسير عارياً بلا رداء يأوي إلى الكهوف بعد عناء سياحة وتجوال مخاطر بين الوحوش الضارية، غائراً إلى مخدعه ليسجل انتصاره الباهر على حيوان الماموث والجاموس البري عبر خطوط ورسوم تخليداً لهذه الذكرى ولم يخطر بباله وحاله اليتيم إن تلك النقوش هي بداية تأسيس أول مدرسة لفن الرسم.
بدائياً ذاتياً تلقائياً عفوياً مجبولاً على الإيماء والإشارة والسحر والشعوذة تارة ومنها مقطوع الصلة بالآلهه. أقلامهُ من عظامٍ وسيوفهُ من حجرٍ وسريرهُ كومة قش ووسادته من جلد الضأن.
وجودي النزعة، افتراضي الوهم والتحسب جاهل غائم عائم في لجة الضباب يؤمن باللعنة متراساً لبلواه، مكترث للخوف والهلع من الحرائق المندلعة في دغل الغابة.
 أما الآن آجرك الله يا مولاي.. فهو الأقل طاعة للحكام والموروث والأكثر تحدياً للجامد من الآراء، والمبعثر للأفكار.. وجودي خارق التصور ساكن هاجع في ذمم الغيبوبة والصد عن الخطاب السياسي. والمعول الأول على أوهام الحياة ذي نزعة فردية نفسية ووجدانية، صوفي عاقل غير متبتل ومتمرد يتأنى كثيراً في إطلاق رصاصة حتى على من طعنوا قلبه. لا يقبل أنصاف الحلول. فأن اعتدل رضي بالنزر اليسير من كسرات الخبز. وإن قاوم أكل الحصرم وبات يتضور جوعاً قابعاً خلف غياهب السجون ينادم الحلاج في أحسن أحواله.
هلوعاً جزوعاً نفوراً تغريه غربلة السورياليه والكولاج ويسحقه نهم الحضارة المحتقنة بالأفكار والمشارب والنزعات الحداثوية.
يهرول من الأكاديمي الموروث إلى التجريد المسلوب ركضة المرثون لا شعلة فيها ليغفوا في أتون اللعبة المنصهر، ويعبق أريجه المتحرق.
يطلق لحيته، تراه صوفياً دنفاً فقيهاً متزمتاً وفي النهاية لا تجد من كل هذا غير شمعة تذوب في الطرقات. تراه بغتة منفلتاً يلبس الأسمال ويترصد المراثي ترجماناً لآماله وإلهامه.. لا يحفل بتقبيل اليدين والتصفيق والبهرجة.
يهتم بالجوهر ويتعربد بالفكرة  مزكياً نفسه قتل النفوس غيلة والعوم في براءة دم قميص يوسف.. لكن بعد هنيهة يغيب عن باله مثل هذا الوهم فيقعد ملوماً محسوراً.
يا مولاي صبرك، يؤمن بأن للرسم طقوس واحجيات وحرية رأي مشوب بالحذر عندما يبصر سيف الحاكم فيهرب بعيداً خارج الوطن حيث الموديل العاري الملهم للشبق الموبؤ بالرغبات وإطفاء جمرات الوهج الجنسي.
الفنان لا يعرف السفسطة إنما هو متصوف برموز أخرى من التهجد الحلاجي الجنيدي التلمساني السهروردي، يبحث في خصلات شعر الفتاة الجميلة والمنظر الخلاب وتداعيات البعد الثالث. يسترق النظر إلى –الماوراء- مجتهد تحليلي مبدع انقلابي متوهج إلى صيرورة المكنون الذاتي، حداثوي عابث كلاسيكي صارم عندما تقتضي الضرورة لكنه ليس تعصبي، عنصري طائفي. تقي عارف يتجنب الضار لإنه حرام.. ويستحلي المر إذا كانت وراءه أهداف نبيلة.
الفنان وجودي من طراز آخر.. فيثاغورثي أفلاطوني ابيقوري سقراطي يعرف نفسه، مولع بتشريح الجسد وخلط الألوان، أحمرها أزرقها أصفرها مع ذبذباتها الفيزيائية الرخوة الرطبة. الرغبة لديه حال من أحوال الغربة والشتات إلى المهجر الفردي الذاتي النفسي المحلق بين السماء والأرض باحثاً عن الموضوعية راغباً في اقتناء أسلوب انطباعي تعبيري. فإذا سرت إليه نفحات التأثيرية غاب في وعي (فان كوخ) وإذا استأثر بالتكعيبية تجاور مع بيكاسو وإذا اضطرم مع لوتريك نام في سكرة الموت الدادائي.
الفنان الرسام هو المبتلى برحيق الألوان وزهورها والعابق في أريجها الزاخر بالزهد والعبث والمحرك الجهنمي لفرشاته وأنامله حيث حراك الدم المعجون بشمائل الأرجوان المحلى بالأحمر إلى الأصفرار اللاهث في جوف –كوكان- وزرقة غيوم (ماتيس) إلى تفاحات (سيزان) إذا ما التهب خياله بمنحه معشوقة تسربل الفرح في وعي تجربته الإبداعية ومضى يهرول عارياً معانقاً زوربا اليوناني، له طقوسه الخاصة بالعبادة.. يشذ عن قاعدة صناعة – اللوحة- التقليدية ويهرب بذاته مهرولاً إلى تقليعات العصر ليجد فيها المتنفس –الهيلامي- ويعود متوسلاً العفو والمغفرة لدى النقدة والنقاد. خاشعاً متذرعاً من سلوكه الأخطبوطي للخروج من حلقات المعصية. يستعين بالعولمة ويتمشدق بها عندما يكون قريباً إلى الضعف منه إلى القوة ويركب الأفكار –المتضادة-  وصولاً إلى الجسد بالروح عابراً إلى صهوات خيول فائق حسن وألوان الشيخلي ورائعة جواد سليم يتأمل تلك الملهمات يفكر ويفكر إذا هو موجود. يفكر ويفكر ويسعل ويعطس ويرفس إذاً هو يعيش الواقع يخرج منه. مختنقاً من اجل ولادة فكرة. يعيش الواقعية، يرسم أشجان الناس وآمالهم ومنعطفات جدلهم الفني في الرمزية والبرجماثية والتنقيطية.
تخطيط للفنان ناصر خلف

الرسام متصوف وجودي من جهة النزعة الفردية والطرح النفسي الذاتي الشخصي الداخلي والاستغناء بالذات عن الموضوع والاستجارة بالمعنوي المادي والخشوع لله ورسوله وآل بيته.
لا يأبه بمنصب نائب أو وزير، يعيش مع ثله من صعاليك الفن والرسم والشعر ومتعتعي كؤوس الحرمان، مشنفاً أذنيه لسماع ماجدة الرومي وفيروز، مهاجراً مع طيور الأهوار حيث صوت خضير مفطورة وفرج والمنكوب.
ياسيدي الشيخ أثقلني سهر الليالي الدامسات وكآبة يوم عسير في –هول- أروع من أحببت مغطياً وجهي الحزين ببرقع الحقيقة التي أحبها أفلاطون حباً جماً الحّسُ الوجود والموجود في مجهود الفارابي.. أهتز خجلاً من عترة الشيخوخة كما تهتز سعفات نخيل السماوة والمشخاب وعودة سحرية إلى سهول غزلان شيروانة.
إذا بكى الفنان اهتزت له فرائص الأرض وخاب نضال جيفارا واحتسى الراهب عتيق شرابه أسوة بالمفرطين في ندم العزة. وإذا ما شطح واعتل صدره غسله بنطفة أمشاج بلاهة الأغبياء من شلليات مقاهي القرقعة والكلام الفارغ وهذيان السحرة، مترعاً خمور –الاندرينا- وإذا ما جال ببصره رآى النور والديجور والسابلة الذاهبين إلى مرقد السيد المعصوم ولي المساكين. وإذا ما خاب ظنه في افتراض جدلي محاه سقراط من خارطة العبث الشبابي ليرميه جانباً عديم المعرفة يمور في جهالة الذات وغباء المفرطين بنعم الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق